"أرشِدنا إلى طريق المنفى المرير".
يوربيديس - الباخوسيات "
المنفى"، هو مشروع فني للمصورة البولندية (مارتا بوجدانسكا) التي تعيش حالياً في بيروت. يهدف المشروع الى منح مساحة تعبيرية للاجئين السوريين في لبنان وتوثيق تجاربهم بعد أن اضطروا لترك بلدهم في العامين الأخيرين. تحدثت المصورة إلى ما يقارب الأحد عشر شخصاً ممن فروا من سوريا إلى لبنان، وقامت بتصوير شيء شخصي واحد مهم أخذوه معهم حين رحلوا عن بلادهم. ثم طلبت من كل واحد منهم أن يروي قصة رحلتهما سوياً إلى خارج سوريا. يحافظ المشروع على سرية هوية المشاركين فيه لعدم تعريضهم لأي خطر قد ينجم عن الإفصاح عن هوياتهم.
1. خليل، 22 عاماً، ذكر
أقيم في لبنان منذ 17 شهراً، لكني درست سابقاً في طرابلس لمدة أربع سنوات. جئت هنا في فبراير 2012 تقريباً.
غادرت لأن احتمالات تدمير جيش النظام لمدينتي "تلكلخ" وتحديداً قريتي "حالات" كانت كبيرة، وكنت أتوقع أن يلقوا القبض عليّ هناك. ولأني درست لفترة في لبنان لم أواجه صعوبات في الوصول، استخدمت بطاقة الدراسة ودخلت لبنان بصفة قانونية.
سلكت الطريق من "تلكلخ" وحتى قريتي "حالات" ثم من "مشرفة" إلى "عكار" وحتى "طرابلس". أحضرت معي من سوريا صورة فوتوغرافية لابن عمي الذي حاول الوصول إلى لبنان بعد أيام قليلة من قدومي إلى هنا، لكنه غرق في النهر أثناء محاولته العبور. كان صديق طفولتي، وهذه الصورة التقطت له منذ 12 عاماً، حينها حصل على أول جواز سفر له حيث كان مسافراً إلى الكويت. هي صورة جواز السفر؛ أعطاها لي في ذلك الوقت واحتفظت بها.
اعتدت أن أضعها في محفظتي مع بطاقة الهوية وبطاقة الزيارة وبقيت معي أينما أذهب. أعتقد أنه كان في المرحلة الخامسة في ذلك الحين أي كان يبلغ 11 أو 12 عاماً.
قرر ابن عمي أن يأتي إلى لبنان بسبب التفجيرات حيث لم يعد بإمكانه التعامل مع ما يحدث، خاصة لأنه كان يحمل الجنسية اللبنانية، فكان يقلقه تأزم الموقف واحتمال إلقاء القبض عليه كسلفي إرهابي يحارب على جبهة الجيش السوري الحر. قرر أن يسلك طريق المهربين عبر النهر بدلاً من المرور من الطرق الرسمية. كانت تمطر بغزارة تلك الليلة، وحين وصل تقريباً إلى الضفة الأخرى تفاجأ بفيضان جرفه بعيداً. حاولنا مساعدته من الجهة الأخرى من النهر لكن سوء الأحوال الجوية أعاقنا. عثرنا على جثته لاحقاً على جانب النهر. كانت خسارتي كبيرة، مات لأنه خشي أن يقبض عليه رجال النظام السوري.
لا أظن أن بإمكاني العودة إلى سوريا قبل إسقاط النظام واستعادة كرامتنا، فقد اعتدت أن أتعرض للإهانة عند نقاط التفتيش من قبل الجنود لأن والدي كان مقبوضاً عليه. وكانوا دائماً يتهمونني بتهريب معلومات على جهاز الحاسوب المحمول، ويبحثون في الجهاز ووسط الكتب ويأخذونها إلى الضابط ليعيد التفتيش.
حدث ذلك عند كل نقاط التفتيش من منزلي وحتى الحدود. أحياناً لتجنب هذه المعاملة السيئة كنت أتنقل دون أن أحمل معي أي شيء. تركت بطاقة هاتفي المحمول مع ابن عمي صاحب الصورة، فهو يحمل الجنسية اللبنانية ولم يكن ليواجه ما واجهته من مصاعب.
من المخاطرة أن أعود الآن؛ كل أفراد عائلتي مطلوب القبض عليهم من قبل النظام. وتم بالفعل إلقاء القبض على ستة منهم على الأقل، قبل حتى أن تبدأ الثورة، وقُبض على أبي أيضاً بعد ذلك. وأنا الآن مطلوب لأداء الخدمة العسكرية، لكني بالطبع لن أنضمّ لجيش كهذا. عمي الآن في السجن، ويعتقد النظام أن قريتنا تؤوي إرهابيين بينما قُتل أصدقائي على يد النظام ولم تستلم أسرهم الجثث بعد. لن تكون عودتي الآن آمنة، كما أني أنجز من هنا أكثر مما كنت أفعل وأنا هناك. الموقف هناك بالغ السوء، وإذا عشت تحت الحصار فسوف تُكبل يداي كذلك.
2. نور، 21 عاماً، أنثى
جئت إلى هنا منذ 13 شهراً وأسبوعين لأن الوضع في سوريا وتحديداً في حمص صار معقداً. درست في جامعة حلب لكن الحياة في المدينة أصبحت صعبة، في الفترة الأخيرة فاضطررنا للمغادرة.
قررت أسرتي المجيء إلى لبنان ووصلتُ قبلهم بأسبوعين. اضطررنا للعبور فرادى لأنهم لا يسمحون للأسر بالعبور إلا بعد دفع مبلغ كبير. وحتى إن كان المبلغ متوافراً قد تُمنع من العبور. جاء أخي أولاً ولحقته بعد أسبوع، ثم وصل باقي أفراد أسرتي بعد 13 يوماً.
سلكت الطريق من حلب إلى حمص ثم إلى تلكلخ. ومن هناك ذهبت إلى "دبوسي" ثم "أبو سمرة" حتى وصلت إلى طرابلس. أحضرت معي ولاعة، وهي تخص خطيبي الموجود في حلب. نسيها على الطاولة في إحدى المرات فأخذتها معي. حين كان يطلب مني أن أردها له بعد ذلك كنت أجيب: "لن أعيدها لك". إنها مجرد ولاعة عادية.
حدث ذلك حين كنت أخطط للانتقال إلى لبنان لكن الطرق إلى حمص كانت مغلقة لذا ظللت أفكر لفترة. لم يعرف خطيبي بنيتي السفر الى لبنان، لم أخبره لأنه يؤيد النظام. وبرغم العلاقة القوية التي كانت تجمعنا قبل الثورة اتفقنا على ألا نتناقش في الأمور السياسية حيث إني مؤيدة للثورة.
كانت حلب هادئة في ذلك الحين، لكني كنت قلقة على أهلي في حمص. كنت أهاتفهم دائماً لأطمئن عليهم وأتأكد من أنهم بخير. وأحياناً ما كنت أتحدث مع خطيبي عن ذلك، فهو لم يكن موالياً للنظام بالمعنى الحرفي ولكنه بالأحرى كان ضد الأعمال التخريبية التي قد تؤدي إلى تدمير البلاد، ويظن أن بشار كان سيقوم بإصلاحات لكنه لم يُمنح الوقت اللازم. لكن ردي كان دائماً أنه إذا أراد حقاً أن يقوم بإصلاحات فالوقت كان طويلاً أمامه؛ 11 عاماً، ظل يتحدث فقط لكنه لم يفعل شيئاً.
خلال العام الأخير الذي قضيناه معاً اعتدنا أن نتجادل حول الأمر، إلى أن قررنا التوقف عن ذلك كي لا نصل إلى مرحلة الشجار. حين تعقد الموقف في تلكلخ استأجرت سيارة لأسرتي لأنقلهم من هناك إلى حمص ثم إلى حلب. لم يكن أي منهم ينوي الانتقال إلى لبنان في ذلك الوقت. لكننا في النهاية قررنا جميعاً أن نأتي. خطيبي في مصر الآن ونتواصل عبر الإنترنت.
خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة التي قضيتها هنا استطاع أن يأتي لزيارتي مرة واحدة. بعد أن وصلت لبنان ظل هو في حلب لشهرين. لم يرحل على الفور لأنه كان عالقاً هناك وسط الأحداث المتصاعدة. ولحسن الحظ تم ترتيب رحلة جوية من حلب إلى مصر، فسافر مع أهله بالطائرة ثم انتقل من هناك إلى دمشق ومنها إلى بيروت ثم طرابلس ليلتقي بي. قضينا بعض الوقت معاً ثم سافر من بيروت إلى مصر. لا أعرف إلى متى سأظل هنا. كنا قد قررنا العودة إلى مدينتنا إذا هدأ الوضع، لكننا عرفنا أن منزلنا تهدم وليس لدينا مكان نعود إليه. كان يسكنه كل أعمامي وأقاربي بعد أن تهدمت منازلهم، والآن تهدم هو الآخر. أنا شخصياً لا يمكنني العودة لأني سمعت أنهم يعرفون هناك بعملنا مع المنظمات الأهلية، فنحن نعمل لمصلحة اللاجئين السوريين، وهكذا قد تصبح حياتي أنا وأخواتي في خطر إذا عدنا.
ذات مرة كنا في منزلنا مع بعض الأصدقاء وتمكنّا من عد 59 قنبلة حولنا. بوم، بوم، بوم.. حين سيطر الجيش السوري الحر على ريف حلب خرجنا في تظاهرات بجامعة حلب، وانضممت إلى معظمها. كنا نخرج من الامتحان إلى التظاهرة، ولم أكن أخبر خطيبي بذلك بالطبع. قرر خطيبي المجيء إلى هنا وسنتزوج خلال أيام.
3. جوانا، 21 عاماً، أنثى
غادرت تلكلخ متجهة إلى لبنان منذ 13 شهراً بسبب القصف المتواصل من قبل جيش النظام هناك. اعتدت المجيء إلى لبنان لزيارة أقاربي هنا. لكن هذه المرة الوضع مختلف لأننا جئنا كلاجئين. كانت تصل مدة زياراتنا إلى عشرة أيام تقريباً نعود بعدها إلى سوريا، لكننا الآن سنضطر للبقاء إلى أن يرحل النظام.
عبرت الحدود وحدي بصفة قانونية. بينما سبقتني أسرتي (أمي وأخواتي) في اليوم نفسه، فمن الصعب العبور معاً. ورغم أني كنت وحدي، لاحظ الجنود أن بعض ممن يحملون الاسم نفسه عبروا في ذلك اليوم، فأوقفوني وبدأوا في التحقق من الأمر. واستجوبوني أيضاً: "ما سبب زيارتك للبنان؟ لم لم تعبري مع أسرتك؟" وبدا أنهم يريدون رشوة، فاضطررت لأن أعطيهم المال، قالوا لي إنهم لن يسمحوا لي بالعبور إن لم أدفع، وفتشوا حقائبي.
كانت هناك أسرة أخرى تحاول المرور معي لكنها مُنعت، ورأيت أيضاً امرأة محجبة تعرضت للكثير من الصعوبات من قبل رجال أمن الحدود السورية ولم يسمحوا لها بالمرور في النهاية. استغرقت الرحلة من تلكلخ وحتى "دبوسي" ساعة كاملة. حين وصلت إلى الجانب اللبناني لم أواجه أي صعوبات. مسار رحلتي بدأ من حلب ثم إلى حمص ومنها إلى تلكلخ ثم "دبوسي" حتى وصلت إلى طرابلس.
قضيت عشرة أيام في تلكلخ لأرى ما يحدث هناك، وكان الوضع حينها في حلب لا يزال هادئاً. كانت عشرة أيام مريعة؛ تم بدايتها قصف تلكلخ، ورغم ذلك ظللنا في الطابق الثاني من المنزل لأنه كان آمناً. بعدها بدأت الطلقات تخترق كل جدار بالمنزل، وحدث هجوم بالقرب منا حيث كان هناك مستشفى ميداني في شارعنا. كنت أشعر أني سأموت في أية لحظة وصار من المستحيل العيش في ذلك المنزل. سمعنا أن القنابل التي يستخدمها النظام يمكنها اختراق أربعة طوابق بينما لم يكن لدينا سوى سقف واحد فوق رؤوسنا. وهنا قررت أسرتي الرحيل. أحضرت معي صوراً فوتوغرافية لأصدقائي وأفراد عائلتي، أردت أن أحتفظ بهم. وبرغم القصف كان منزلنا لا يزال بخير حين رحلت، لكن بعد وصولنا هنا شاهدناه في فيديو على موقع "يوتيوب" وقد دُمّر بالكامل.
من الجيد أني أحضرت الصور معي وإلا كانت ستفنى وسط كل ما حدث من دمار. كنت سأفقد بعض ذكرياتي، لذا سأحتفظ بالصور التي قد لا أتمكن من رؤية أصحابها ثانية. لا أعرف المدة التي سأقضيها هنا، حتى إذا رحل النظام، فلم يعد لدينا منزل في سوريا. سنستغرق بعض الوقت حتى نعود ونستقر مرة أخرى بعد أن فقدنا كل ملابسنا وأثاثنا. كل شيء فُقد؛ سرقوه أو حرقوه. كنت أدرس إدارة الأعمال في جامعة حلب.
4. جمعة، 31 عاماً، ذكر
غادرت دمشق في الخامس عشر من تشرين الأول 2011. ركبت التاكسي ثم سلكت الطريق الرئيسي من دمشق إلى بيروت. لم أواجه صعوبات على الحدود، كنت أخشى أن يحدث شيء لكني مررت بسلام. ما حدث كان هزلياً في الحقيقة؛ فهناك مساحة من الأرض بين بوابة الحدود السورية واللبنانية، وأثناء اتجاهي إلى بوابة لبنان مررنا على هذه المساحة التي يمكن أن نطلق عليها "منطقة محرمة". وهناك انتابني شعور غريب بالراحة وزال القلق الذي كان مسيطراً عليّ.
وفجأة ظهر على هذه الأرض التي لا تخص أحداً جنود سوريون يحملون الأسلحة، فعاودني القلق والحزن. كان لديّ الكثير في دمشق وتركت كل شيء تقريباً هناك. لكني أحضرت معي أهم شيء؛ الملابس، فبالتأكيد أحتاجها. كما أحضرت مفرشاً للطاولة، يسمى "دانتل" بالكردية، أهدته لي أختي الأكبر. أحبه كثيراً، تميزه ألوانه الزاهية. كانت قد صنعته بنفسها، ويعد من الديكورات التقليدية بالمنطقة الكردية في الشمال وهي المنطقة التي جئت منها. أردت أن أحتفظ به معي، عادة لا أميل إلى الألوان الكثيرة لكنه بالنسبة لي ذكرى. وهذا ما أحتاجه حقاً، فعائلتي لا تزال في سوريا.
حين جئت هنا قلت لنفسي إني تركت ذكرياتي وأرشيفي، لكن شيئاً لن يضيع لأني أودعتها عند أحد الأصدقاء. الكثير من شرائط الفيديو، وهي مهمة جداً بالنسبة لي، لكن النظام بالطبع يعتبرها غير قانونية. كان البقاء في سوريا بالنسبة لي "انتحاراً"، ليس لمجرد أني كنت معرّضاً للخطر، لكن البقاء كان معناه أن أُقتَل أو أَقتل أحدهم. كنت أعمل على مشروعات توثيقية، وفي منتصف مارس حين بدأنا التصوير توقف كل شيء. قضيت سبعة أشهر كاملة لا أفعل شيئاً، أجلس فقط في المنزل محاطاً بالمشاعر السلبية. رغم أنه كان ينتانبني الشعور بالفرح هناك من حين لآخر، غير أن كل أصدقائي كانوا مسجونين، وكانت الناس تُقتل في الشوارع، ولم أكن أفعل شيئاً سوى مشاهدة الأخبار. لم يكن الأمر هينًا. ولم أتمكن من الشعور بأي شيء حينها في دمشق، المدينة التي كنت أحبها كثيراً في السابق.
كلنا نعرف أن النظام سيتغير، لكن هذا ليس سهلاً، سيُقتل الكثيرون في المقابل وتسيل الكثير من الدماء.